[size=18]
تحقيق: ميس أحمد
يقول أهل الشام:
(( طب الجرّة على تمها تطلع البنت لأمها)) , بمعنى أنه مهما اختلفت حيثيات وطريقة التربية فإن البنت ستشبه أمها حتماً. ولكن اليوم, بحسب الكثير من الدراسات والمشاهدات, يبدو أننا سنترك (( الجرة )) كما هي, لأن المعادلة انقلبت رأساً على عقب, حيث باتت الأم تتأثر بابنتها, وفي بعض الأحيان تقلّدها. الذهاب إلى المقاهي, الاهتمام بالأزياء, ومتابعة كل جديد في التجميل, وحتى استحضار مفردات عصرية جداً لتصبح جزءاً من مفرداتها, كل هذه الأمور وغيرها بدأت تنقلها الفتاة لأمها, والثانية بدورها أصبحت تجاهد لاستيعاب كل هذا لتتمكّن من مواكبة ما يسمّونه تطوراً, وهنا يتجلّى السؤال: مَنْ تربّي مَنْ؟ وبصورة أخرى, من منهما تقلّد.. وتقتدي بالأخرى؟
ثمة دراسات غريبة حديثة توصّلت إلى نتيجة مفادها أن تلك العلاقة الحميمة التي تربط الفتاة بأمها قد اتّخذت في الفترة الأخيرة طابعاً تنافسياً لا يخلو من صراع - غير هدّام بالطبع - بل بنّاء, سعياً نحو تطور الطرفين.
وماذا عن مجتمعنا؟ إذا استبعدنا نتائج تلك الدراسات لاختلاف واقعنا وتركيبته الاجتماعية والنفسية عن مثيله في الغرب, أما زال بمقدورنا القول إن تأثير الأم على شخصية ابنتها لايزال قوياً إلى درجة تشكيلها كما في السابق؟
والسؤال الأهم: كيف يمكن للأم العصرية أن تجاري مظاهر التغيير الحالية وأن تقي ابنتها من الانزلاق في مساربها الخطيرة أحياناً؟ هل تضع لها خطوطاً حمر, أم تلجأ لأساليب أخرى؟ بالمقابل, ألا يمكن أن تتخذ العلاقة بين الأم وابنتها طابعاً عكسياً, بمعنى أن البنت هي التي باتت تؤثر على أمها, وإلا كيف يمكن أن نفسّر ميل بعض الأمهات نحو محاكاة بناتهن في طريقة لباسهن ومكياجهنّ واتباعهنّ لصرعات الموضة, وارتيادهنّ للمقاهي والنوادي بدعوى أنهن (أي الأمهات) لم يعشن هذه المظاهر في أيامهنّ السابقة, ومن حقهنّ الآن أن يتمتعن بها حتى ولو لم تكن تتناسب مع أعمارهنّ؟
أسئلة كثيرة وشائكة حاولنا أن نسلّّط الضوء عليها, ونستطلع حولها آراء بعض الأمهات في هذا التحقيق:
تيار جارف
تؤكد مديرة العلاقات العامة والتسويق في المركز العلمي السيدة نورية الفاضل أن العلاقة التي تربط الأم بابنتها قد تغيّرت فعلاً, كما تغيّرت الكثير من الأمور في حياتنا, والتي شبّهتها بالتيار الجارف, وتقول: (( ليست علاقتي بابنتي هي التي باتت تأخذ منحى آخر فقط, بل حتى علاقتي أنا بأمي قد تغيّرت, ولو بشكل محدود - بحكم إدراكي للمتغيرات التي طرأت على المجتمع - لكن مقارنة مع المرحلة العمرية لبنات الجيل الحالي أرى أن دخول التكنولوجيا والانفتاح الذي صاحبه كان له تأثير واضح على سلوكهنّ, غير أنه يبقى ضمن نطاق السيطرة..
ففي السابق كانت علاقة الأم بابنتها ضمن الحد الأدنى المطلوب, لكن اليوم المفروض أن يكون دور الأم نشطاً ومضاعفاً, وأن تكون أكثر حذراً ووعياً ومتابعة لابنتها. فالخوف حالياً ليس من مساحة الحرية التي باتت تتمتع بها البنت بحكم الانفتاح وتعدد مصادر المعلومات (فضائيات وإنترنت), فالتطور أمر حتمي في كل مجتمع, وإنما الخوف من ألا تستطيع الأم مجاراة هذا التطور, أو التسليم به كأمر واقع لا مجال لمجابهته.
من ناحية ثانية تستطيع الأم أن تضع لابنتها خطوطاً حمر عليها عدم تجاوزها, خصوصاً فيما يتعلّق بعلاقتها بالجنس الآخر, بحكم طبيعة مجتمعنا المحافظة والثوابت الدينية والقيمية الراسخة فيه. وهنا يتحتم عليها أن تقترب من منطق ابنتها وتتبادل معها الحوار لتفسح لها المجال لإبداء رأيها ووجهة نظرها بمنتهى الصراحة )).
حالة شاذة
تؤمن السيدة نورية بأن البنت مازالت تمثّل صورة عن أمها بحكم أنهما نشأتا في بيئة واحدة, وتؤكد: (( حتى لو اتخذت البنت مساراً مختلفاً في مرحلة عمرية معينة (في فترة المراهقة), إلا أنها ستعود حتماً إلى الصورة التي جسّدتها لها أمها, وستكون تلك المرحلة عابرة من عمرها )). وتضيف: (( لا تستطيع الأم اليوم إيقاف عجلة التطور, كما لا تستطيع فرض جميع قناعاتها على ابنتها, ولهذا عليها أن تتنازل قليلاً, وأن تغض النظر عن بعض الأمور (غير الجوهرية), فالاعتدال بات مطلوباً, ولا بد من إيجاد نقطة تلاقي بينهما, أي طريقة للتعامل مبنيّة على الثقة بشكل مقنع للبنت ومريح للأم.
أما فيما يتعلّق بما نراه حالياً من ميل بعض الأمهات نحو تقليد بناتهنّ في طريقة اللباس والمكياج واتّباع صرعات الموضة, فأعتقد أنها حالات شاذة ولا تمثّل قاعدة )).
مبادرات أمومية بنّاءة
من جهتها تؤكّد أستاذة اللغة العربية بجامعة الكويت - نائب رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان الدكتورة سهام الفريح أن الأم تبقى العنصر الأساسي في التنشئة السليمة, لذا عليها أن تعي أهمية دورها في رعاية أبنائها, بنين كانوا أم بنات, وإن كان تأثيرها بالغ الأهمية على البنات بسبب انتماء البنت والأم إلى الجنس نفسه الذي تتطابق فيه الكثير من النزعات والاحتياجات.
وتقول: (( مهما تطورت الحياة وانتقلت بنا من حال إلى حال, يبقى للأم دورها المؤثر والبليغ في تشكيل شخصيات أبنائها عامة وشخصيات بناتها بصورة خاصة, وليس بالضرورة أن يكون هذا التشكيل للبنت حسب رؤى الأم أو أن تكون البنت صورة من أمها أو صدى لها, فالأم الواعية لدورها سوف تتلمس حاجات ابنتها النفسية دون أن يغيب عن ذهنها أن الزمن الذي تعيشه ابنتها هو غير الزمن الذي عايشته أيام مراهقتها وشبابها, وخصوصاً في ظل هذه التحولات الشديدة التي يمرّ بها مجتمعنا. ولكي لا يحدث الصراع ولا التباعد بينهما على الأم أن تمنح ابنتها الثقة مع المراقبة عن بعد لتساعدها في اجتياز مرحلة النمو مع كل ما نعيشه من تناقضات بين قيم وتقاليد مجتمعنا ومستجدّات الحضارة المعارضة لها.
ولهذا يتعين على الأم أن تقترب من ابنتها وتتعامل معها كصديقة وفق طريقتها وأسلوبها, كأن تبادر في أخذ مشورة ابنتها في مشكلة تعاني منها لخلق حالة من الحوار والثقة التي ستفتح فضاءات واسعة من التقارب بينهما. ومن المبادرات البنّاءة أيضاً أن تتبادل الأم مع ابنتها بعض الحاجات (كعطرها مثلاً) أو أي شيء آخر لا يقتصر استخدامه على عمر معين.
أمر مرفوض
من ناحية ثانية ترى د. الفريح أن عناية الأم بمظهرها هو أمر إيجابي وليس سلبياً إذا كان في حدود المعقول, وتقول: (( إنّ الأم اليوم ليست ذاتها أم الأمس التي كانت حبيسة البيت, ولا دور لها سوى أنها زوجة وأم. فبعد أن نالت المرأة قسطاً وافراً من التعليم وخرجت إلى الحياة العامة لتساهم مساهمة فاعلة في بناء مجتمعها باتت العناية بمظهرها أمراً ضرورياً, أما مبالغة بعض الأمهات في ذلك بما لا يتناسب مع أعمارهنّ وشكلهنّ فهو أمر مرفوض, وكذلك الأمر بالنسبة لارتياد المقاهي والمطاعم على نحو باتت تهجر فيه المنازل لفترات طويلة )).